فصل: مسألة اختلاف الذين قالوا بوجوب الخطبة في القدر المجزئ منها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 الفصل الثاني‏.‏ في معرفة شروط الإمامة، ومن أولى بالتقديم، وأحكام الإمام الخاصة به‏.‏ وفي هذا الفصل مسائل أربع‏:‏

 -‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا فيمن أولى بالإمامة، فقال مالك‏:‏ يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد‏:‏ يؤم القوم أقرؤهم‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه‏"‏ وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف العلماء في مفهومه، فمنهم من حمله على ظاهره وهو أبو حنيفة‏.‏ ومنهم من فهم من الأقرأ ههنا الأفقه‏.‏ لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة، وأيضا فإن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، وذلك بخلاف ما عليه الناس اليوم‏.‏

 -‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلف الناس في إمامة الصبي الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا، فأجاز ذلك لعموم ‏(‏هذا الأثر‏)‏ ‏{‏ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع أنه لم يذكر أثرا، فلهذا نبهنا على زيادته‏}‏ ولحديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو صبي‏.‏ ومنع ذلك قوم مطلقا، وأجازه قوم في النفل، ولم يجيزوه في الفريضة، وهو مروي عن مالك‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك هل يؤم أحد في صلاة غير واجبة عليه من وجبت عليه‏؟‏، وذلك لاختلاف نية الإمام والمأموم‏؟‏‏.‏

 -‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا في إمامة الفاسق، فردها قوم بإطلاق، وأجازها قوم بإطلاق، وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، فقالوا‏:‏ إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا، وإن كان مظنونا استحبت له الإعادة في الوقت، وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق، فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول‏.‏ وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع، والقياس فيه متعارض‏.‏ فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن من يحتاج المأموم إمامه إلا صحة صلاته فقط على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز إمامة الفاسق، ومن قاس الإمامة على الشهادة واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته، ولذلك فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير تأويل، وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، لأنه إذا كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله، وقد رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏يؤم القوم أقرؤهم‏"‏ قالوا‏:‏ فلم يستثن من ذلك فاسقا من غير فاسق، والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة، أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة‏.‏

 -‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق، وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال، لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول، ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أخروهن حيث أخرهن الله‏"‏ ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة، مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول، ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها‏"‏ وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من اختلافهم في الصفات المشترطة في الإمام تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع‏.‏ قال القاضي‏:‏ وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة أو ماله تعلق قريب بالمسموع‏.‏

-‏(‏وأما أحكام الإمام الخاصة به‏)‏ فإن في ذلك أربعة مسائل متعلقة بالسمع‏:‏ إحداها هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن‏؟‏ أم المأموم هو الذي يؤمن فقط‏.‏ والثانية متى يكبر تكبيرة الإحرام‏؟‏ والثالثة إذا أرتج عليه هل يفتح عليه أم لا‏؟‏ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين‏.‏ فأما هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب، فإن مالكا ذهب في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء، وهي رواية المدنيين عن مالك، وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر‏:‏ أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا أمن الإمام فأمنوا‏"‏ والحديث الثاني ما خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا أمين‏"‏ فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام‏.‏ وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن، وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام، لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏ إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام‏:‏ أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله، فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين، ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط، لكن الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي، وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا، ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام، وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا‏.‏ ويمكن أيضا أن يتأول الحديث الأول بأن يقال‏:‏ إن معنى قوله ‏"‏فإذا أمن فأمنوا‏"‏ أي إذا بلغ موضع التأمين، وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا عدول عن الظاهر لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس‏:‏ أعني أن يفهم من قوله ‏"‏فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا‏"‏ أنه لا يؤمن الإمام‏.‏ وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا‏:‏ لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف، وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة‏.‏ وقوم قالوا‏:‏ إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة، واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال‏.‏ أما حديث أنس فقال‏:‏ ‏"‏أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة فقال‏:‏ أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري‏"‏ وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة، مثل ما روي عن عمر أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ يكبر‏.‏ وأما حديث بلال فإنه روى ‏"‏أنه كان يقيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول له‏:‏ يا رسول الله لا تسبقني بآمين‏"‏ خرجه الطحاوي‏.‏ قالوا‏:‏ فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم‏.‏ وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا أرتج عليه، فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه، ومنع ذلك الكوفيون‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار، وذلك ‏"‏أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد في آية، فلما انصرف قال‏:‏ أين أبي ألم يكن في القوم‏؟‏‏"‏ أي يريد الفتح عليه‏.‏ وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏لا يفتح على الإمام‏"‏ والخلاف في ذلك في الصدر الأول، والمنع مشهور عن علي، والجواز عن ابن عمر مشهور‏.‏ وأما موضع الإمام فإن قوما أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين، وقوم منعوا ذلك، وقوم استحبوا من ذلك اليسير، وهو مذهب مالك‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك حديثان متعارضان‏:‏ أحدهما الحديث الثابت‏:‏ ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام أم الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة، وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر‏"‏والثاني ما رواه أبو داود أن حذيفة أم الناس على دكان، فأخذ ابن مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال‏:‏ ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك، أو ينهى عن ذلك‏؟‏‏.‏ وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أم لا‏؟‏ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه أقام إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة، ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين، وهذا على مذهب من يرى أن الإمام يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين‏.‏

 الفصل الثالث‏.‏ في مقام المأموم من الإمام، والأحكام الخاصة بالمأمومين‏.‏ وفي هذا الباب خمس مسائل‏:‏

 -‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اتفق جمهور العلماء على أن سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره، وأنهم إن كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه، واختلفوا إذا كانا اثنين سوى الإمام، فذهب مالك والشافعي إلى أنهما يقومان خلف الإمام‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون‏:‏ بل يقوم الإمام بينهما‏.‏ والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضين‏:‏ أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعا، فدفعنا حتى قمنا خلفه‏"‏ والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام وسطهما، وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر‏:‏ واختلف رواة هذا الحديث، فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده، والصحيح أنه موقوف، وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام، أو خلف الإمام إن كانت وحدها، فلا أعلم في ذلك خلافا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته، قال‏:‏ فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا‏"‏ والذي خرجه عنه أيضا مالك أنه قال ‏"‏فصففت أنا واليتيم وراءه عليه الصلاة والسلام، والعجوز من ورائنا‏"‏ وسنة الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل عن يساره، ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام، وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه‏.‏

 -‏(‏المسألة الثانية‏)‏ أجمع العلماء على أن الصف الأول مرغب فيه، وكذلك تراص الصفوف وتسويتها لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده، فالجمهور على أن صلاته تجزئ‏.‏ وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل له، وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا صلاة لقائم خلف الصف‏"‏ وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس‏.‏ وكان أحمد يقول‏:‏ ليس في ذلك حجة، لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال‏.‏ وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة‏.‏ واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له ‏"‏زادك الله حرصا ولا تعد‏"‏ ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض‏:‏ أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة‏.‏

 -‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة‏؟‏ فروي عن عمرو وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة‏.‏ وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي، بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة، وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت ‏"‏إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة‏"‏ ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ وقوله ‏{‏السابقون السابقون أولئك المقربون‏}‏ وقوله ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم‏}‏ ‏.‏

وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير، لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال القرب‏.‏

 -‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ متى يستحب أن يقام إلى الصلاة، فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة، وبعض عند قوله‏:‏ قد قامت الصلاة، وبعضهم عند حي على الفلاح، وبعضهم قال‏:‏ حتى يروا الإمام، وبعضهم لم يحد في ذلك حدا كمالك رضي الله عنه، فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس، وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني‏"‏ فإن صح هذا وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه‏:‏ أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل فحسن‏.‏

 -‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له أن يركع دون الصف الأول ثم يدب راكعا، وكره ذلك الشافعي، وفرق أبو حنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة‏.‏ وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة، وهو ‏"‏أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهم ركوع، فركع ثم سعى إلى الصف، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من الساعي‏؟‏ قال أبو بكرة أنا، قال‏:‏ زادك الله حرصا ولا تعد‏"‏‏.‏

 الفصل الرابع‏.‏ في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام‏.‏

-وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله إلا في قوله‏:‏ سمع الله لمن حمده، وفي جلوسه إذا صلى جالسا لمرض عند من أجاز إمامة الجالس‏.‏ وأما اختلافهم في قوله سمع الله لمن حمده، فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع‏:‏ سمع الله لمن حمده فقط، ويقول المأموم‏:‏ ربنا ولك الحمد فقط، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وغيرهما‏.‏ وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وإن المأموم يتبع فيهما معا الإمام كسائر التكبير سواء‏.‏ وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا، ولا خلاف في المنفرد‏:‏ أعني أنه يقولهما جميعا‏.‏ وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان‏:‏ أحدهما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا‏:‏ ربنا ولك الحمد‏"‏ والحديث الثاني حديث ابن عمر ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال‏:‏ سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد‏"‏ فمن رجح مفهوم حديث أنس قال‏:‏ لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا الإمام ربنا ولك الحمد، وهو من باب دليل الخطاب، لأنه جعل حكم المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به‏.‏ ومن رجح حديث ابن عمر قال‏:‏ يقول الإمام ربنا ولك الحمد، ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏ ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم‏.‏ والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد، وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده‏.‏ وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد، فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب‏.‏ وحديث أنس يقتضي بعمومه أن المأموم يقول‏:‏ سمع الله لمن حمده بعموم قوله ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏ وبدليل خطابه أن لا يقولها، فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب، ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب، لكن العموم يختلف أيضا في القوة والضعف، ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوى من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية‏:‏ أعني في المأموم‏.‏

 -‏(‏وأما المسألة الثانية‏)‏ وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا، وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق، والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء‏.‏ وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع، والأول هو المشهور عنه‏.‏ وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار‏:‏ أعني عمل أهل المدينة عند مالك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين‏:‏ أحدهما حديث أنس، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا‏"‏ وحديث عائشة في معناه، وهو ‏"‏أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا‏"‏ والحديث الثاني حديث عائشة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر‏"‏ فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين‏:‏ مذهب النسخ، ومذهب الترجيح‏.‏ فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا‏:‏ إن ظاهر حديث عائشة وهو ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعا‏"‏ لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياما، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا، فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم‏.‏ وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر‏؟‏‏.‏ وأما مالك فليس له مستند من السماع، لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال‏:‏ لا يؤم الناس أحد قاعدا، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏لا يؤمن أحد بعدي قاعدا‏"‏ قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل‏؟‏ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال‏:‏ ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته‏"‏ وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث‏.‏

 الفصل الخامس في صفة الاتباع‏.‏

-وفيه مسئلتان‏:‏  إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم،  والثانية في حكم من رفع رأسه قبل الإمام‏.‏ أما اختلافهم في وقت تكبير المأموم، فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام، قال‏:‏ وإن كبر معه أجزأه، وقد قيل إنه لا يجزئه، وأما إن كبر قبله فلا يجزئه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام، فإن فرغ قبله لم يجزه‏.‏ وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان‏:‏ إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر‏.‏ والثانية أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه‏.‏ وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين متعارضين‏:‏ أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏فإذا كبر فكبروا‏"‏ والثاني ما روي ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء‏"‏ فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم الطهارة، وهو أيضا مبني على أصله أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، والحديث ليس فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أو لم يستأنفوه، فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف، والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه‏.‏ وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع فيتبع الإمام‏.‏ وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار‏"‏‏؟‏‏.‏

 الفصل السادس فيما حمله الإمام عن المأمومين‏.‏

-واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر به‏.‏ والثاني أنه لا يقرأ معه أصلا‏.‏ والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغيرها، وفيما جهر أم الكتاب فقط، وبعضهم فرق في الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع، فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع، ونهاه عنها إذا سمع، وبالأول قال مالك، إلا أنه يستحسن له القراءة فيما أسر فيه الإمام‏.‏ وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال الشافعي، والتفرقة بين أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الباب وبناء بعضها على بعض، وذلك أن في ذلك أربعة أحاديث‏:‏ أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏ وما ورد من الأحاديث في هذا المعنى مما ذكرناه في باب وجوب القراءة‏.‏ والثاني ما روى مالك عن أبي هريرة‏؟‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال‏:‏ هل قرأ معي منكم أحد آنفا، فقال رجل‏:‏ نعم أنا يا رسول الله، فقال رسول الله‏:‏ إني أقول مالي أنازع القرآن‏"‏ فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثالث حديث عبادة بن الصامت قال ‏"‏صلى بنا رسول الله صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة‏.‏ فلما انصرف قال‏:‏ إني لأراكم تقرءون وراء الإمام، قلنا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فلا تفعلوا إلا بأم القرآن‏"‏ قال أبو عمر، وحديث عبادة بن الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند صحيح‏.‏ والحديث الرابع حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏من كان له إمام فقراءته له قراءة‏"‏ وفي هذا أيضا حديث خامس صححه أحمد بن حنبل، وهو ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا قرأ الإمام فأنصتوا‏"‏ فاختلف الناس في وجه جمع هذه الأحاديث‏.‏ فمن الناس من استثنى من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن الصامت‏.‏ ومنهم من استثنى من عموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏ المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة، وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ قالوا‏:‏ وهذا إنما ورد في الصلاة‏.‏ ومنهم من استثنى القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا، وجعل الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط مصيرا إلى حديث جابر، وهو مذهب أبي حنيفة، فصار عنده حديث جابر مخصصا لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏واقرأ ما تيسر معك فقط‏"‏ لأنه لا يرى وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة، وإنما يرى وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم، وحديث جابر لم يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي، ولا حجة في شيء مما ينفرد به‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهو حديث لا يصح إلا مرفوعا عن جابر‏.‏

 الفصل السابع‏.‏ في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين‏.‏

-واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد‏.‏ واختلفوا إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة، فقال قوم‏:‏ صلاتهم صحيحة، وقال قوم‏:‏ صلاتهم فاسدة، وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو ناسيا لها، فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم، وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم، وبالأول قال الشافعي، وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال مالك‏.‏ وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست مرتبطة‏؟‏ فمن لم يرها مرتبطة قال‏:‏ صلاتهم جائزة، ومن رآها مرتبطة قال‏:‏ صلاتهم فاسدة، ومن فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا، فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء‏"‏ فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم والشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة مرتبطة للزم أن يبدءوا بالصلاة مرة ثانية‏.‏

 الباب الثالث من الجملة الثالثة‏.‏

-والكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في أربعة فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في وجوب الجمعة وعلى من تجب‏.‏ الثاني‏:‏ في شروط الجمعة‏.‏ الثالث‏:‏ في أركان الجمعة‏.‏ الرابع‏:‏ في أحكام الجمعة‏.‏

 الفصل الأول في وجوب الجمعة ومن تجب عليه‏.‏

-أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر، ولظاهر قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع‏}‏ والأمر على الوجوب، ولقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم‏"‏ وذهب قوم إلى أنها من فروض الكفايات‏.‏ وعن مالك رواية شاذة أنها سنة‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف تشبيهها بصلاة العيد لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إن هذا يوم جعله الله عيدا‏"‏ وأما على من تجب فعلى من وجدت فيه شروط وجوب الصلاة المتقدمة ووجد فيها زائدا عليها أربعة شروط اثنان باتفاق واثنان مختلف فيهما‏.‏ أما المتفق عليهما فالذكورة والصحة، فلا تجب على امرأة ولا على مريض باتفاق، ولكن إن حضروا كانوا من أهل الجمعة‏.‏ وأما المختلف فيهما فهما المسافر والعبد، فالجمهور على أنه لا تجب عليهما الجمعة، وداود وأصحابه على أنه تجب عليهما الجمعة‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة‏:‏ عبد مملوك‏.‏ أو امرأة‏.‏ أو صبي أو مريض‏"‏ وفي أخرى ‏"‏إلا خمسة‏"‏وفيه ‏"‏أو مسافر‏"‏ والحديث لم يصح عند أكثر العلماء‏.‏

 الفصل الثاني في شروط الجمعة‏.‏

-وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها‏:‏ أعني الثمانية المتقدمة ما عدا الوقت والأذان، فإنهم اختلفوا فيهما، وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها‏.‏ أما الوقت فإن الجمهور على أن وقتها وقت الظهر بعينه‏:‏ أعني وقت الزوال، وأنها لا تجوز قبل الزوال، وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن حنبل‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف في مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا نتغدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقيل إلا بعد الجمعة‏.‏ ومثل ما روي أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال، فمن فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك، ومن لم يفهم منها إلا التكبير فقط لم يجز ذلك لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب، وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن مالك ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس‏"‏ وأيضا فإنها لما كانت بدلا من الظهر وجب أن يكون وقتها وقت الظهر، فوجب من طريق الجمع بين هذه الآثار أن تحمل تلك على التبكير، إذ ليست نصا في الصلاة قبل الزوال، وهو الذي عليه الجمهور‏.‏

وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر واختلفوا هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد‏؟‏ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط، وهو الذي يحرم به البيع والشراء‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل يؤذن اثنان فقط‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل إنما يؤذن ثلاثة‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى البخاري عن السائب ابن يزيد أنه قال ‏"‏كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء‏"‏ وروي أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال ‏"‏لم يكن يوم الجمعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد‏"‏ وروي أيضا عن سعيد بن المسيب أنه قال ‏"‏كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان زمان عثمان وكثر الناس فزاد الأذان الأول ليتهيأ الناس للجمعة‏"‏ ورى ابن حبيب ‏"‏أن المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة‏"‏ فذهب قوم إلى ظاهر ما رواه البخاري، وقالوا‏:‏ يؤذن يوم الجمعة مؤذنان‏.‏ وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد فقالوا‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث أن النداء الثاني هو الإقامة‏.‏

وأخذ آخرون بما رواه ابن حبيب، وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة ولا سيما بما انفرد به‏.‏ وأما شروط الوجوب والصحة المختصة ليوم الجمعة فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال‏:‏ واحد مع الإمام وهو الطبري‏.‏ ومنهم من قال اثنان سوى الإمام‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ ثلاثة دون الإمام، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد‏.‏ وقال قوم ثلاثين‏.‏ ومنهم من لم يشترط عددا، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهو مذهب مالك، وحدهم بأنهم الذين يمكن أن تتقرى بهم قرية‏.‏

وسبب اختلافهم في هذا اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان، وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم‏؟‏ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة، فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان، فإن كان ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك قال تقوم الجمعة باثنين الإمام وواحد ثان، وإن كان ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال تقوم باثنين سوى الإمام، ومن كان أيضا عنده أن أقل الجمع ثلاثة، فإن كان لا يعد الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام، وإن كان ممن يعد الإمام في جملتهم وافق قول من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم‏.‏ وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع قال لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة ولم يحد في ذلك حدا، ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس وهو مالك رحمه الله‏.‏ وأما من اشترط الأربعين فمصيرا إلى ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة‏:‏ أعني شروط الوجوب وشروط الصحة فإن من الشروط ما هي شروط وجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين جميعا‏:‏ أعني أنها شروط وجوب وشروط صحة‏.‏ وأما الشرط الثاني وهو الاستيطان، فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على مسافر، وخالف في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم الجمعة على المسافر‏.‏

واشترط أبو حنيفة المصر والسلطان مع هذا، ولم يشترط العدد‏.‏ وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط‏؟‏ وذلك أنه لم يصلها صلى الله عليه وسلم إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع، فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها، ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره كاشتراط مالك المسجد وتركه اشتراط المصر والسلطان، ومن هذا الوضع اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب مثل اختلافهم هل تقام جمعتان في مصر واحد أو لا تقام‏؟‏ والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض، ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة، إذ كان معلوما من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة، ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة ورأى أن المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا‏؟‏ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا‏؟‏ وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر‏.‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ ولقوله تعالى ‏{‏لتبين لهم الذي اختلفوا فيه‏}‏ والله المرشد للصواب‏.‏

 الفصل الثالث في الأركان‏.‏ اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا في ذلك في خمس مسائل هي قواعد هذا الباب‏.‏

 -‏(‏المسألة الأولى‏)‏ في الخطبة، هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل الأصل المتقدم من احتمال كل ما اقترن بهذه الصلاة أن يكون من شروطها أو لا يكون‏.‏ فمن رأى أن الخطبة حال من الأحوال المختصة بهذه الصلاة، وبخاصة إذا توهم أنها عوض من الركعتين اللتين نقصتا من هذه الصلاة قال‏:‏ إنها ركن من أركان هذه الصلاة وشرط في صحتها، ومن رأى أن المقصود منها هو الموعظة المقصودة من سائر الخطب رأى أنها ليست شرطا من شروط الصلاة، وإنما وقع خلاف في هذه الخطبة هل هي فرض أم لا‏؟‏ لكونها راتبة من سائر الخطب، وقد احتج قوم لوجوبها بقوله تعالى ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ وقالوا هو الخطبة‏.‏

 -‏(‏المسألة الثانية‏)‏ واختلف الذين قالوا بوجوبها في القدر المجزئ منها فقال ابن القاسم‏:‏ هو أقل ما ينطلق اسم خطبة في كلام العرب من الكلام المؤلف المبتدأ بحمد الله‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أقل ما يجزئ من ذلك خطبتان اثنتان يكون في كل واحدة منهما قائما يفصل إحداهما من الأخرى بجلسة خفيفة يحمد الله في كل واحدة منهما في أولها ويصلي على النبي ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة والسبب في اختلافهم هو هل يجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي أو الاسم الشرعي، فمن رأى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئا من الأقوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم فيها‏.‏ ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم الشرعي اشترط فيها أصول الأقوال التي نقلت من خطبه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعني الأقوال الراتبة الغير مبتذلة‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف أن الخطبة التي نقلت عنه فيها أقوال راتبة وغير راتبة، فمن اعتبر الأقوال الغير راتبة وغلب حكمها قال‏:‏ يكفي من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي‏:‏ أعني اسم خطبة عند العرب‏.‏ ومن اعتبر الأقوال الراتبة وغلب حكمها قال‏:‏ لا يجزئ من ذلك إلا أقل ما ينطلق عليه اسم الخطبة في عرف الشرع واستعماله، وليس من شرط الخطبة عند مالك الجلوس، وهو شرط كما قلنا عند الشافعي، وذلك أنه من اعتبر المعنى المعقول منه من كونه استراحة للخطيب لم يجعله شرطا، ومن جعل ذلك عبادة جعله شرطا‏.‏

 -‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب على ثلاثة أقوال‏:‏ فمنهم من رأى أن الإنصات واجب على كل حال وأنه حكم لازم من أحكام الخطبة، وهم الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجميع فقهاء الأمصار، وهؤلاء انقسموا ثلاثة أقسام، فبعضهم أجاز التشميت ورد السلام في وقت الخطبة، وبه قال الثوري والأوزاعي وغيرهم وبعضهم لم يجز رد السلام ولا التشميت، وبعض فرق بين السلام والتشميت فقالوا يرد السلام ولا يشمت، والقول الثاني مقابل القول الأول، وهو أن الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حين قراءة القرآن فيها، وهو مروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والقول الثالث الفرق بين أن يسمع الخطبة أو لا يسمعها، فإن سمعها أنصت وإن لم يسمع جاز له أن يسبح أو يتكلم في مسألة من العلم، وبه قال أحمد وعطاء وجماعة، والجمهور على أنه إن تكلم لم تفسد صلاته‏.‏ وروي عن ابن وهب أنه قال‏:‏ من لغا فصلاته ظهر أربع وإنما صار الجمهور لوجوب الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت‏"‏ وأما من لم يوجبه فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ أي أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات، وهذا فيه ضعف والله أعلم‏.‏ والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم‏.‏ وأما اختلافهم في رد السلام وتشميث العاطس، فالسبب فيه تعارض عموم الأمر بذلك لعموم الأمر بالإنصات، واحتمال أن يكون كل واحد منهما مستثنى من صاحبه، فمن استثنى من عموم الأمر بالصمت يوم الجمعة الأمر بالسلام وتشميت العاطس أجازهما، ومن استثنى من عموم الأمر برد السلام والتشميت الأمر بالصمت في حين الخطبة لم يجز ذلك، ومن فرق فإنه استثنى رد السلام من النهي عن التكلم في الخطبة، واستثنى من عموم الأمر التشميت وقت الخطبة، وإنما ذهب واحد واحد من هؤلاء إلى واحد واحد من المستثنيات لما غلب على ظنه من قوة العموم في أحدها وضعفه في الآخر، وذلك أن الأمر بالصمت هو عام في الكلام خاص في الوقت، والأمر برد السلام والتشميت هو عام في الوقت خاص في الكلام، فمن استثنى الزمان الخاص من الكلام العام لم يجز رد السلام ولا التشميت في وقت الخطبة، ومن استثنى الكلام الخاص من النهي عن الكلام العام أجاز ذلك‏.‏ والصواب أن لا يصار لاستثناء أحد العمومين بأحد الخصوصين إلا بدليل، فإن عسر ذلك فبالنظر في ترجيح العمومات والخصوصات، وترجيح تأكيد الأوامر بها والقول في تفصيل ذلك يطول، ولكن معرفة ذلك بإيجاز أنه إن كانت الأوامر قوتها واحدة والعمومات والخصوصات قوتها واحدة ولم يكن هنالك دليل على أي يستثنى من أي وقع التمانع ضرورة، وهذا يقل وجوده، وإن لم يكن فوجه الترجيح في العمومات والخصوصات الواقعة في أمثال هذه المواضع هو النظر إلى جميع أقسام النسب الواقعة بين الخصوصين والعمومين، وهي أربع‏:‏ عمومان في مرتبة واحدة من القوة، وخصوصان في مرتبة واحدة من القوة، فهذا لا يصار لإستثناء أحدهما إلا بدليل، والثاني مقابل هذا، وهو خصوص في نهاية القوة وعموم في نهاية الضعف، فهذا يجب أن يصار إليه ولا بد أعني أن يستثنى من العموم الخصوص، الثالث خصوصان في مرتبة واحدة، وأحد العمومين أضعف من الثاني، فهذا ينبغي أن يخصص فيه العموم الضعيف، الرابع عمومان في مرتبة واحدة وأحد الخصوصين أقوى من الثاني، فهذا يجب أن يكون الحكم فيه للخصوص القوي، وهذا كله إذا تساوت الأوامر فيها في مفهوم التأكيد، فإن اختلفت حدثت من ذلك تراكيب مختلفة ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ وقوة الأوامر، ولعسر انضباط هذه الأشياء قيل إن كل مجتهد مصيب أو أقل ذلك غير مأثوم‏.‏

 -‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اختلفوا فيمن جاء يوم الجمعة والإمام على المنبر‏:‏ هل يركع أم لا‏؟‏ فذهب بعض إلى أنه لا يركع وهو مذهب مالك، وذهب بعضهم إلى أنه يركع‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة القياس لعموم الأثر، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين‏"‏ يوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب، والأمر بالإنصات إلى الخطيب يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن الإنصات وإن كان عبادة، ويؤيد عموم هذا الأثر ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين‏"‏ خرجه مسلم في بعض رواياته، وأكثر رواياته ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الداخل أن يركع، ولم يقل إذا جاء أحدكم‏"‏ الحديث‏.‏ فيتطرق إلى هذا الخلاف في هل تقبل زيادة الراوي الواحد إذا خالفه أصحابه عن الشيخ الأول الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا‏؟‏ فإن صحت الزيادة وجب العمل بها، فإنها نص في موضع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس، لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل‏.‏

-‏(‏ المسألة الخامسة‏)‏ أكثر الفقهاء على أن من سنة القراءة في صلاة الجمعة قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى لما تكرر ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي هريرة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بإذا جاءك المنافقون‏"‏ وروى مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة قال ‏"‏كان يقرأ بهل أتاك حديث الغاشية‏"‏ واستحب مالك العمل على هذا الحديث وإن قرأ عنده بسبح اسم ربك الأعلى كان حسنا، لأنه مروي عن عمر بن عبد العزيز وأما أبو حنيفة فلم يقف فيها شيئا‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة حال الفعل للقياس، وذلك أن القياس يوجب أن لا يكون لها سورة راتبة كالحال في سائر الصلوات، ودليل الفعل يقتضي أن يكون لها سورة راتبة‏.‏ وقال القاضي‏:‏ خرج مسلم عن النعمان ابن بشير ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية‏"‏ قال فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين، وهذا يدل على أنه ليس هناك سورة راتبة وأن الجمعة ليس كان يقرأ بها دائما‏.‏

 الفصل الرابع في أحكام الجمعة‏.‏

-وفي هذا الباب أربع مسائل‏.‏  الأولى‏:‏ في حكم طهر الجمعة‏.‏  الثانية‏:‏ على من تجب ممن خارج المصر‏.‏  الثالثة‏:‏ في وقت الرواح المرغب فيه إلى الجمعة‏.‏  الرابعة‏:‏ في جواز البيع يوم الجمعة بعد النداء‏.‏

-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في طهر الجمعة؛ فذهب الجمهور إلى أنه سنة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض ولا خلاف فيما أعلم أنه ليس شرطا في صحة الصلاة، والسبب في اختلافهم تعارض الآثار وذلك أن في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة‏"‏ وفيه حديث عائشة قالت‏:‏ ‏"‏كان الناس عمال أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لو اغتسلتم‏؟‏ والأول صحيح باتفاق، والثاني خرجه أبو داود ومسلم‏.‏ وظاهر حديث أبي سعيد يقتضي وجوب الغسل، وظاهر حديث عاشة أن ذلك كان لموضع النظافة وأنه ليس عبادة، وقد روي ‏"‏من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل‏"‏ وهو نص في سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف‏.‏ وأما وجوب الجمعة على من هو خارج المصر، فإن قوما قالوا‏:‏ لا تجب على من خارج المصر، وقوم قالوا‏:‏ بل تجب، وهؤلاء اختلفوا اختلافا كثيرا، فمنهم من قال‏:‏ من كان بينه وبين الجمعة مسيرة يوم وجب عليه الإتيان إليها وهو شاذ، ومنهم من قال يجب عليه الإتيان إليها على ثلاثة أميال، ومنهم من قال‏:‏ يجب عليه الإتيان من حيث يسمع النداء في الأغلب، وذلك من ثلاثة أميال من موضع النداء، وهذان القولان عن مالك، وهذه المسألة ثبتت في شروط الوجوب‏.‏ وسبب اختلافهم في هذا الباب اختلاف الآثار، وذلك أنه ورد أن الناس كانوا يأتون الجمعة من العوالي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ثلاثة أميال من المدينة‏.‏ وروى أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏الجمعة على من سمع النداء‏"‏ وروي ‏"‏الجمعة على من آواه الليل إلى أهله‏"‏ وهو أثر ضعيف وأما اختلافهم في الساعات التي وردت في فضل الرواح، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة‏"‏ فإن الشافعي وجماعة من العلماء اعتقدوا أن هذه الساعات هي ساعات النهار فندبوا إلى الرواح من أول النهار، وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده، وقال قوم‏:‏ هي أجزاء ساعة قبل الزوال وهو الأظهر لوجوب السعي بعد الزوال إلا على مذهب من يرى أن الواجب يدخله الفضيلة‏.‏ وأما اختلافهم في البيع والشراء وقت النداء فإن قوما قالوا‏:‏ يفسخ البيع إذا وقع النداء، وقوما قالوا لا يفسخ‏.‏ وسبب اختلافهم هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه أم لا‏؟‏‏.‏ وآداب الجمعة ثلاث الطيب والسواك واللباس الحسن، ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك‏.‏

 الباب الرابع في صلاة السفر‏.‏

-وهذا الباب فيه فصلان‏:‏ الفصل الأول في القصر‏.‏ الفصل الثاني في الجمع‏.‏

 الفصل الأول في القصر‏.‏

-والسفر له تأثير في القصر باتفاق، وفي الجمع باختلاف‏.‏ أما القصر فإنه اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ، وهو قول عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وقالوا‏:‏ إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قصر لأنه كان خائفا، واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع‏:‏ أحدها في حكم القصر، والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر، والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر، والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير، والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا أقام في موضع أن يقصر الصلاة‏.‏ فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال‏:‏ فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه‏.‏ ومنهم من رأى أن القصر والإتمام كلاهما فرض مخير له كالخيار في واجب الكفارة‏.‏ ومنهم من رأى أن القصر سنة‏.‏ ومنهم من رأى أنه رخصة وأن الإتمام أفضل، وبالقول الأول قال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم‏:‏ أعني أنه فرض متعين، وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي وبالثالث ‏"‏أعني أنه سنة‏"‏ قال مالك في أشهر الروايات عنه‏.‏ وبالرابع ‏"‏أعني أنه رخصة‏"‏ قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول لصيغة اللفظ المنقول ومعارضة دليل الفعل أيضا للمعنى المعقول ولصيغة اللفظ المنقول، وذلك أن المفهوم من قصر الصلاة للمسافر إنما هو الرخصة لموضع المشقة كما رخص له في الفطر وفي أشياء كثيرة

ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال ‏"‏قلت لعمر‏:‏ إنما قال الله ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ يريد في قصر الصلاة في السفر، فقال عمر ‏"‏عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال‏:‏ صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏"‏ فمفهوم هذا الرخصة‏.‏ وحديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة‏"‏ وهما في الصحيح، وهذا كله يدل على التخفيف والرخصة ورفع الحرج، لا أن القصر هو الواجب ولا أنه سنة‏.‏ وأما الأثر الذي يعارض بصيغته المعنى المعقول ومفهوم هذه الآثار فحديث عائشة الثابت باتفاق قالت ‏"‏فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر‏"‏ وأما دليل الفعل الذي يعارض المعنى المعقول ومفهوم الأثر المنقول فإنه ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام من قصر الصلاة في كل أسفاره، وأنه لم يصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أتم الصلاة قط فمن ذهب إلى أنه سنة أو واجب مخير فإنما حمله على ذلك أنه لم يصح عنده ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أتم الصلاة وما هذا شأنه‏"‏

فقد يجب أن يكون أحد الوجهين‏:‏ أعني إما واجبا مخيرا، وإما أن يكون سنة، وإما أن يكون فرضا معينا، لكن كونه فرضا معينا يعارضه المعنى المعقول، وكونه رخصة يعارضه اللفظ المنقول، فوجب أن يكون واجبا مخيرا أو سنة، وكان هذا نوعا من طريق الجمع، وقد اعتلوا لحديث عائشة بالمشهور عنها من أنها كانت تتم، وروى عطاء ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء‏"‏ ومما يعارضه أيضا حديث أنس وأبي نجيح المكي قال‏:‏ اصطحبت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، ولم يختلف في إتمام الصلاة عن عثمان وعائشة، فهذا هو اختلافهم في الموضع الأول‏.‏ وأما اختلافهم في الموضع الثاني وهي المسافة التي يجوز فيها القصر، فإن العلماء اختلفوا في ذلك أيضا اختلافا كثيرا، فذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد، وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون‏:‏ أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق‏.‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة‏.‏ وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط، فقالوا‏:‏ قد قال النبي عليه الصلاة والسلام ‏"‏إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة‏"‏ فكل من انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلا‏"‏ وذهب قوم إلى خامس كما قلنا وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وقد قيل إنه مذهب عائشة وقالوا‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه كان خائفا‏.‏

وأما اختلاف أولئك الذين اعتبروا المشقة فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة برد مروي عن ابن عمر وابن عباس، ورواه مالك، ومذهب الثلاثة أيام مروي أيضا عن ابن مسعود وعثمان وغيرهما‏.‏ وأما الموضع الثالث وهو اختلافهم في نوع السفر الذي تقتصر فيه الصلاة، فرأى بعضهم أن ذلك مقصور على السفر المتقرب به كالحج والعمرة والجهاد، وممن قال بهذا القول أحمد‏.‏ ومنهم من أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية، وبهذا القول قال مالك والشافعي‏.‏ ومنهم من أجازه في كل سفر قربة كان أو مباحا أو معصية وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر‏.‏ وأما من اعتبر دليل الفعل قال‏:‏ إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به‏.‏ وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ،

والأصل فيه‏:‏ هل تجوز الرخص للعصاة أم لا‏؟‏ وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى، فاختلف الناس فيها لذلك‏.‏ وأما الموضع الرابع وهو اختلافهم في الموضع الذي منه يبدأ المسافر بقصر الصلاة، فإن مالكا قال في الموطأ‏:‏ لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخل أول بيوتها‏.‏ وقد روي عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وذلك عنده أقصى ما تجب فيه الجمعة على من كان خارج المصر في إحدى الروايتين عنه، وبالقول الأول قال الجمهور‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل، وذلك أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم مسافر فمن راعى مفهوم الاسم قال‏:‏ إذل خرج من بيوت القرية قصر‏.‏ ومن راعى دليل الفعل‏:‏ أعني فعله عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ لا يقصر إلا إذا خرج من بيوت القرية بثلاثة أميال لما صح من حديث أنس قال ‏"‏كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ‏{‏شعبة الشاك‏}‏ صلى ركعتين‏"‏ وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا قام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها مذهب مالك والشافعي إنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم‏.‏ والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم‏.‏ والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم‏.‏ وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل لها حكم المسافر‏.‏ فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روى ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته‏"‏ وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير،

وإنما فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها‏.‏ والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة مقصرا وذلك نحوا من خمسة عشر يوما في بعض الروايات وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق‏.‏ والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجة بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقام بعد قضاء نسكه‏"‏ فدل هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام‏:‏ أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا، وإن أقام ما شاء الله‏.‏ ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة؛ فقالت المالكية مثلا إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه، والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين‏:‏ إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون أقامه لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون أقامه بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق، فعرض له أن قام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن‏.‏ وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم السفر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر‏.‏